فصل: ذكر قتل السلطان طغرل وملك خوارزم شاه الري ووفاة أخيه سلطان شاه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر قتل بكتمر صاحب بخلاط:

في هذه السنة، أول جمادى الأولى، قتل سيف الدين بكتمر، صاحب خلاط، وكان بين قتله وموت صلاح الدين شهران، فإنه أسرف في إظهار الشماتة بموت صلاح الدين، فلم يمهله الله تعالى، ولما بلغه موت صلاح الدين فرح فرحاً كثيراً، وعمل تختاً جلس عليه، ولقب نفسه بالسلطان المعظم صلاح الدين، وكان لقبه سيف الدين، فغيره، وسمي نفسه عبد العزيز، وظهرت منه اختلال وتخليط، وتجهز ليقصد ميافارقين يحصرها، فأدركته منيته.
وكان سبب قتله أن هزار ديناري، وهو أيضاً من مماليك شاه أرمن ظهير الدين، كان قد قوي وكثر جمعه، وتزوج ابنة بكتمر، فطمع في الملك، فوضع عليه من قتله، فلما قتل ملك بعده هزار ديناري بلاد خلاط وأعمالها.
وكان بكتمر ديناً، خيراً، صالحاً، كثير الخير، والصلاح، والصدقة، محباً لأهل الدين والصوفية، كثير الإحسان إليهم، قريباً منهم ومن سائر رعيته، محبوباً إليهم، عادلاًُ فيهم، وكان جواداً شجاعاً عادلاً في رعيته حسن السيرة فيهم.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة شتى شهاب الدين ملك غزنة في برشاوور، وجهز مملوكه أيبك في عساكر كثيرة، فأدخله بلاد الهند يغنم ويسبي، ويفتح من البلاد ما يمكنه، فدخلها، وعاد فخرج هو وعساكره سالماً، قد ملأوا أيديهم من الغنائم.
وفيها، في رمضان، توفي سلطان شاه، صاحب مرو وغيرها من خراسان، وملك أخوه علاء الدين تكش بلاده، وسنذكر سنة تسعين إن شاء الله تعالى.
وفيها أمر الخليفة الناصر لدين الله بعمارة خزانة الكتب بالمدرسة النظامية ببغداد، ونقل إليها من الكتب النفيسة ألوفاً لا يوجد مثلها.
وفيها، في ربيع الأول فرغ من عمارة الرباط الذي أمر بإنشائه الخليفة أيضاً بالحريم الطاهري، غربي بغداد على دجلة، وهو من أحسن الربط، ونقل إليه كتباً كثيرة من أحسن الكتب.
وفيها ملك الخليفة قلعة من بلاد خوزستان، وسبب ذلك أن صاحبها سوسيان بن شملة جعل فيها دزداراً، فأساء السيرة مع جندها، فغدر به بعضهم فقتله، ونادوا بشعار الخليفة، فأرسل إليها وملكها.
وفيها انقض كوكبان عظيمان، وسمع صوت هدة عظيمة، وذلك بعد طاوع الفجر، وغلب ضوءهما القمر وضوء النهار.
وفيها مات الأمير داود بن عيسى بن محمد بن أبي هشام، أمير مكة، وما زالت إمارة مكة تكون له تارة، ولأخيه مكثر تارة، إلى أن مات.
وفي هذه السنة توفي أبو الرشيد الحاسب البغدادي، وكان قد أرسله الخليفة الناصر لدين الله في رسالة إلى الموصل فمات هناك. ثم دخلت:

.سنة تسعين وخمسمائة:

.ذكر الحرب بين شهاب الدين وملك بنارس الهندي:

كان شاب الدين الغوري، ملك غزنة، وقد جهز مملوكه قطب الدين أيبك، وسيره إلى بلد الهند للغزاة، فدخلها فقتل فيها وسبى وغنم وعاد، فلما سمع به ملك بنارس، وهو أكبر ملك في الهند، ولايته من حد الصين إلى بلاد ملاوا طولاً، ومن البحر إلى مسيرة عشرة أيام من لهاوور عرضاً، وهو ملك عظيم، فعندها جمع جيوشه، وحشرها، وسار يطلب بلاد الإسلام.
ودخلت سنة تسعين فسار شهاب الدين الغوري من غزنة بعساكره نحوه، فالتقى العسكران على ماجون، وهو نهر كير يقارب دجلة بالموصل، وكان مع الهندي سبع مائة فيل، ومن العسكر على ما قيل ألف ألف رجل، ومن جملة عسكره عدة أمراء مسلمين، كانوا في تلك البلاد أباً عن جد، من أيام السلطان محمود بن سبكتكين، يلازمون شريعة الإسلام، ويواظبون على الصلوات وأفعال الخير، فلما التقى المسلمون والهنود اقتتلوا، فصبر الكفار لكثرتهم، وصبر المسلمون لشجاعتهم، فانهزم الكفار، ونصر المسلمون، وكثر القتل في الهنود، حتى امتلأت الأرض وجافت، وكانوا لا يأخذون إلا الصبيان والجواري، وأما الرجال فيقتلون، وأخذ منهم تسعين فيلاً، وباقي الفيلة قتل بعضها، وانهزم بعضها، وقتل ملك الهند، ولم يعرفه أحد، إلا أنه كانت أسنانه قد ضعفت أصولها، فأمسكوها بشريط الذهب، فبذلك عرفوه.
فلما انهزم الهنود دخل شهاب الدين بلاد بنارس، وحمل من خزائنها على ألف وأربع مائة جمل، وعاد إلى غزنة ومعه الفيلة التي أخذها من جملتها فيل أبيض، حدثني من رآه: لما أخذت الفيلة، وقدمت إلى شهاب الدين، أمرت بالخدمة، فخدمت جميعها إلا الأبيض فإنه لم يخدم، ولا يعجب أحد من قولنا الفيلة تخدم، فإنها تفهم ما يقال لها، ولقد شاهدت فيلاً بالموصل وفياله يحدثه، فيفعل ما يقول له.

.ذكر قتل السلطان طغرل وملك خوارزم شاه الري ووفاة أخيه سلطان شاه:

قد ذكرنا سنة ثمان وثمانين خرج السلطان طغرل بن ألب أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي من الحبس، وملكه همذان وغيرها، وكان قد جرى بينه وبين قتلغ إينانج بن البهلوان، صاحب البلاد، حرب انهزم فيها قتلغ إينانج، وتحصن بالري.
وسار طغرل إلى همذان، وأرسل قتلغ إينانج إلى خوارزم شاه علاء الدين تكش يستنجده، فسار إليه في سنة ثمان وثمانين، فلما تقاربا ندم قتلغ إينانج على استدعاء خوارزم شاه، وخاف على نفسه فمضى من بين يديه وتحصن في قلعة له، فوصل خوارزم شاه إلى الري وملكها، وحصر قلعة طبرك ففتحها في يومين، وراسله طغرل، واصطلحا، وبقيت الري في يد خوارزم، فجد في السير خوفاً عليها، فأتاه الخبر، وهو في الطريق، أن أهل خوارزم منعوا سلطان شاه عنها، ولم يقددر على القرب منها، وعاد عنها خائباً، فشتى خوارزم شاه بخوارزم، فلما انقضى الشتاء سار إلى مرو لقصد أخيه سنة تسع وثمانين، فترددت الرسل بينهما في الصلح.
فبينما هم في تقرير الصلح ورد على خوارزم شاه رسول من مستحفظ قلعة سرخس لأخيه سلطان شاه يدعوه ليسلم إليه القلعة لأنه قد استوحش من صاحبه سلطان شاه، فسار خوارزم شاه إليه مجداً، فتسلم القلعة وصار معه.
وبلغ ذلك سلطان شاه في عضده، وتزايد كمده، فمات سلخ رمضان سنة تسع وثمانين وخمسمائة؛ فلما سمع خوارزم شاه بموته سار من ساعته إلى مرو فتسلمها، وتسلم مملكة أخيه سلطان شاه جميعها وخزائنه، وأرسل إلى ابنه علاء الدين محمد، وكان يلقب حينئذ قطب الدين، وهو بخوارزم، فأحضره فولاه نيسابور، وولى ابنه الأكبر ملكشاه مرو، وذلك في ذي الحجة سنة تسع وثمانين.
فلما دخلت سنة تسعين وخمسمائة قصد السلطان طغرل بلد الري فأغار على من به من أصحاب خوارزم شاه، ففر منه قتلغ إينانج بن البهلوان، وأرسل إلى خوارزم شاه يعتذر ويسأل إنجاده مرة ثانية؛ ووافق ذلك وصول رسول الخليفة إلى خوارزم شاه يشكو من طغرل، ويطلب إنجاده مرة ثانية؛ ووافق ذلك وصول رسول الخليفة إلى خوارزم شاه يشكو من طغرل، ويطلب منه قصد بلاده ومعه منشور بإقطاعه البلاد، فسار من نيسابور إلى الري، فتلقاه قتلغ إينانج ومن معه بالطاعة، وساروا معه، فلما سمع السلطان طغرل بوصوله كانت عساكره متفرقة، فلم يقف ليجمعها، بل سار إليه فيمن معه، فقيل له: إن الذي تفعله ليس برأي، والمصلحة أن تجمع العساكر؛ فلم يقبل، وكان فيه شجاعة، بل تمم مسيره، فالتقى العسكران بالقرب من الري، فحمل طغرل بنفسه في وسط عسكر خوارزم شاه، فأحاطوا به وألقوه عن فرسه وقتلوه في الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول، وحمل رأسه إلى خوارزم شاه، فسيره من يومه إلى بغداد فنصب بها بباب النوبي عدة أيام.
وسار خوارزم شاه إلى همذان، وملك تلك البلاد جميعها، وكان الخليفة الناصر لدين الله قد سير عسكراً إلى نجدة خوارزم شاه، وسير له الخلع السلطانية مع وزيره مؤيد الدين بن القصاب، فنزل على فرسخ من همذان، فأرسل إليه خوارزم شاه يطلبه إليه، فقال مؤيد الدين: ينبغي أن تحضر أنت وتلبس الخلعة من خيمتي؛ وترددت الرسل بينهما في ذلك، فقيل لخوارزم شاه: إنها حيلة عليك حتى تحضر عنده ويقبض عليك؛ فرحل خوارزم شاه إليه قصداً لأخذه، فاندفع من بين يديه والتجأ إلى بعض الجبال فامتنع به، فرجع خوارزم شاه إلى همذان، ولما ملك همذان وتلك البلاد سلمها إلى قتلغ إينانج، وأقطع كثيراً منها لمماليكه وجعل المقدم عليهم مياجق، وعاد إلى خوارزم.

.ذكر مسير وزير الخليفة إلى خوزستان وملكها:

في هذه السنة، في شعبان، خلع الخليفة الناصر لدين الله على النائب في الوزارة مؤيد الدين أبي عبد الله محمد بن علي المعروف بابن القصاب، خلع الوزارة، وحكم في الولاية، وبرز في رمضان، وسار إلى بلاد خوزستان؛ وولي الأعمال بها، وصار له فيها أصحاب وأصدقاء ومعارف، وعرف البلاد ومن أي وجه يمكن الدخول إليها والاستيلاء عليها، فلما ولي ببغداد نيابة الوزارة أشار على الخليفة بأن يرسله في عسكر إليها ليملكها له، وكان عزمه أنه إذا ملك البلاد واستقر فيها أقام مظهراً للطاعة، مستقلاً بالحكم فيها، ليأمن على نفسه.
فاتفق أن صاحبها ابن شملة توفي، واختلف أولاده بعده، فراسل بعضهم مؤيد الدين يستنجده لما بينهم من الصحبة القديمة، فقوي الطمع في البلاد، فجهزت العساكر وسيرت معه إلى خوزستان، فوصلها سنة إحدى وتسعين وجرى بينه وبين أصحاب البلاد مراسلات ومحاربة عجزوا عنها، وملك مدينة تستر في المحرم، وملك غيرها من البلاد، وملك القلاع، وأنفذ بني شملة أصحاب بلاد خوزستان إلى بغداد، فوصلوا في ربيع الأول.

.ذكر حصر العزيز مدينة دمشق:

في هذه السنة وصل الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين، وهو صاحب مصر، إلى مدينة دمشق، فحصرها وبها أخوه الأكبر الملك الأفضل علي بن صلاح الدين، وكنت حينئذ بدمشق، فنزل بنواحي ميدان الحصى، فأرسل الأفضل إلى عمه الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وهو صاحب الديار الجزرية، يستنجده، وكان الأفضل غاية الواثق به والمعتمد عليه، وقد سبق ما يدل على ذلك، فسار الملك العادل إلى دمشق هو والملك الظاهر غازي بن صلاح الدين، صاحب حلب، وناصر الدين محمد بن تقي الدين، صاحب حماة، وأسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه، صاحب حمص، وعسكر الموصل وغيرها، كل هؤلاء اجتمعوا بدمشق، واتفقوا على حفظها، علماً منهم أن العزيز إن ملكها أخذ بلادهم.
فلما رأى العزيز اجتماعهم علم أنه لا قدرة له على البلد، فترددت الرسل حينئذ في الصلح، فاستقرت القاعدة على أن يكون البيت المقدس وما جاوره من أعمال فلسطين للعزيز، وتبقى دمشق وطبرية وأعمالها والغور للأفضل، على ما كانت عليه، وأن يعطي الأفضل أخاه الملك الظاهر جبلة ولاذقية بالساحل الشامي، وأن يكون للعادل بمصر إقطاعه الأول، واتفقوا على ذلك، وعاد العزيز إلى مصر، ورجع كل واحد من الملوك إلى بلده.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة كانت زلزلة في ربيع الأول بالجزيرة والعراق وكثير من البلاد، سقطت منها الجبانة التي عند مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام.
وفيها، في جمادى الآخرة، اجتمعت زعب وغيرها من العرب، وقصدوا مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم هاشم بن قاسم، أخو أمير المدينة، فقاتلهم فقتل هاشم، وكان أمير المدينة قد توجه إلى الشام، فلهذا طمعت العرب فيه.
وفيها توفي القاضي أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الصمد الطرسوسي الحلبي بها، في شعبان، وكان من عباد الله الصالحين، رحمه الله تعالى. ثم دخلت:

.سنة إحدى وتسعين وخمسمائة:

.ذكر ملك وزير الخليفة همذان وغيرها من بلاد العجم:

قد ذكرنا ملك مؤيد الدين بن القصاب بلاد خوزستان، فلما ملكها سار منها إلى ميسان من أعمال خوزستان، فوصل إليه قتلغ إينانج بن البهلوان، صاحب البلاد، وقد تقدم ذكر تغلب خوارزم شاه عليها، ومعه جماعة من الأمراء، فأكرمه وزير الخليفة وأحسن إليه.
وكان سبب مجيئه أنه جرى بينه وبين عسكر خوارزم شاه ومقدمهم مياجق مصاف عند زنجان، واقتتلوا، فانهزم قتلغ إينانج وعسكره، وقصد عسكر الخليفة ملتجئاً إلى مؤيد الدين الوزير، فأعطاه الوزير الخيل والخيام وغير ذلك مما يحتاج إليه، وخلع عليه وعلى من معه من الأمراء، ورحلوا إلى كرماشاهان.
ورحل منها إلى همذان، وكان بها ولد خوارزم شاه ومياجق والعسكر الذي معهما، فلما قاربهم عسكر الخليفة فارقها الخوارزميون وتوجهوا إلى الري، واستولى الوزير على همذان في شوال من هذه السنة، ثم رحل هو وقتلغ إينانج خلفهم، فاستولوا على كل بلد جازوا به منها: خرقان، ومزدغان، وساوة، وآوة، وساروا إلى الري، ففارقها الخوارزميون إلى خوار الري، فسير الوزير خلفهم عسكراً، ففارقها الخوارزميون إلى دامغان، وبسطام، وجرجان، فعاد عسكر الخليفة إلى الري فأقاموا بها، فاتفق قتلغ إينانج ومن معه من الأمراء على الخلاف على الوزير وعسكر الخليفة لأنهم رأوا البلاد قد خلت من عسكر خوارزم شاه، فطمعوا فيها. فدخلوا الري، فحصرها وزير الخليفة، ففارقها قتلغ إينانج، وملكها الوزير، ونهبها العسكر، فأمر الوزير بالنداء بالكف عن النهب.
وسار قتلغ إينانج ومن معه من الأمراء إلى مدينة آوة وبها شحنة الوزير، فمنعهم من دخولها، فساروا عنها، ورحل الوزير في أثرهم نحو همذان، فبلغه وهو في الطريق أن قتلغ أينانج قد اجتمع معه عسكر، وقصد مدينة كرج، وقد نزل على دربند هناك، فطلبهم الوزير من موضع المصاف إلى همذان، فنزل بظاهرها، فأقام نحو ثلاثة أشهر، فوصله رسول خوارزم شاه تكش، وكان قد قصدهم منكراً أخذه البلاد من عسكره، ويطلب إعادتها، وتقرير قواعد الصلح، فلم يجب الوزير إلى ذلك، فسار خوارزم شاه مجداً إلى همذان.
وكان الوزير مؤيد الدين بن القصاب قد توفي في أوائل شعبان، فوقع بينه وبين عسكره الخليفة مصاف، نصف شعبان سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، فقتل بينهم كثير من العسكرين، وانهزم عسكر الخليفة، وغنم الخوارزميون منهم شيئاً كثيراً، وملك خوارزم شاه همذان، ونبش الوزير من قبره وقطع رأسه وسيره إلى خوارزم، وأظهر أنه قتله في المعركة؛ ثم إن خوارزم شاه أتاه من خراسان ما أوجب أن يعود إليها، فترك البلاد وعاد إلى خراسان.

.ذكر غزو ابن عبد المؤمن الفرنج بالأندلس:

في هذه السنة، في شعبان، غزا أبو يوسف يعقوب بن عبد المؤمن، صاحب بلاد المغرب والأندلس، بلاد الفرنج بالأندلس؛ وسبب ذلك أن ألفنش ملك الفرنج بها، ومقر ملكه مدينة طليطلة، كتب إلى يعقوب كتاباً نسخته: باسمك اللهم فاطر السموات والأرض؛ أما بعد أيها الأمير، فإنه لا يخفى على كل ذي عقل لازب، ولا ذي لب وذكاء ثاقب، أنك أمير الملة الحنيفية، كما أنا أمير الملة النصرانية، وأنك من لا يخفى عليه ما هم عليه رؤساء الأندلس من التخاذل والتواكل، وإهمال الرعية، واشتمالهم على الراحات، وأنا أسومهم الخسف وأخلي الديار، وأسبي الذاراري، وأمثل بالكهول، وأقتل الشباب، ولا عذر لك في التخلف عن نصرتهم، وقد أمكنتك يد القدرة، وأنتم تعتقدون أن الله فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم، والآن خفف الله عنكم، وعلم أن فيكم ضعفاً، فقد فرض عليكم قتال اثنين منا بواحد منكم، ونحن الآن نقاتل عدداً منكم بواحد منا، ولا تقدرون دفاعاً، ولا تستطيعون امتناعاً.
ثم حكي لي عنك أنك أخذت في الاحتفال، وأشرفت على ربوة القتال، وتمطل نفسك عاماً بعد عام، تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، ولا أدري الجبن أبطأ بك أم التكذيب بما أنزل عليك.
ثم حكي لي عنك أنك لا تجد سبيلاً للحرب لعلك ما يسوغ لك التقحم فيها، فها أنا أقول لك ما فيه الراحة، وأعتذر عنك، ولك أن توافيني بالعهود والمواثيق والأيمان أن تتوجه بجملة من عندك في المراكب والشواني، وأجوز إليك بجملتي وأبارزك في أعز الأماكن عندك، فإن كانت لك فغنيمة عظيمة جاءت إليك، وهدية مثلت بين يديك، وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك، واستحققت إمارة الملتين، والتقدم على الفئتين، والله يسهل الإرادة، ويوفق السعادة بمنه لا رب غيره، ولا خير إلا خيره.
فلما وصل كتابه وقرأه يعقوب كتب في أعلاه هذه الآية: {ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون} النمل 37، وأعاده إليه، وجمع العساكر العظيمة من المسلمين وعبر المجاز إلى الأندلس.
وقيل: كان سبب عبوره إلى الأندلس أن يعقوب لما قاتل الفرنج سنة ست وثمانين وصالحهم، بقي طائفة من الفرنج لم ترض الصلح، كما ذكرناه، فلما كان الآن جمعت تلك الطائفة جمعاً من الفرنج، وخرجوا إلى بلاد الإسلام، فقتلوا وسبوا وغنموا وأسروا، وعاثوا فيها عيثاً شديداً، فانتهى ذلك إلى يعقوب، فجمع العساكر، وعبر المجاز إلى الأندلس في جيش يضيق عنهن الفضاء، فسمعت الفرنج بذلك، فجمعت قاصيهم ودانيهم، وأقبلوا إليه مجدين على قتاله، واثقين بالظفر لكثرتهم، فالتقوا، تاسع شعبان، شمالي قرطبة عند قلعة رياح، بمكان يعرف بمرج الحديد، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فكانت الدائرة أولاً على المسلمين، ثم عادت على الفرنج، فانهزموا أقبح هزيمة وانتصر المسلمون عليهم {وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم} التوبة 40.
وكان عدد من قتل من الفرنج مائة ألف وستة وأربعين ألفاً، وأسر ثلاثة عشر ألفاً، وغنم المسلمون منهم شيئاً عظيماً، فمن الخيام مائة ألف وثلاثة وأربعون ألفاً، ومن الخيل ستة وأربعون ألفاً، ومن البغال مائة ألف، ومن الحمير مائة ألف. وكان يعقوب قد نادى في عسكره: من غنم شيئاً فهو له سوى السلاح؛ وأحصى ما حمل إليه منه، فكان زيادة على سبعين ألف لبس، وقتل من المسلمين نحو عشرين ألفاً.
ولما انهزم الفرنج اتبعهم أو يوسف، فرآهم قد أخذوا قلعة رياح، وساروا عنها من الرعب والخوف، فملكها، وجعل فيها والياً، وجنداً يحفظونها، وعاد إلى مدينة إشبيلية.
وأما ألفنش، فإنه لما انهزم حلق رأسه، ونكس صليبه، وركب حماراً، وأقسم أن لا يركب فرساً ولا بغلاً حتى تنصر النصرانية، فجمع جموعاً عظيمة، وبلغ الخبر بذلك إلى يعقوب، فأرسل إلى بلاد الغرب مراكش وغيرها يستنفر الناس من غير إكراه، فأتاه من المتطوعة والمرتزقين جمع عظيم، فالتقوا في ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، فانهزم الفرنج هزيمة قبيحة، وغنم المسلمون ما معهم من الأموال والسلاح والدواب وغيرها، وتوجه إلى مدينة طليلطة فحصرها، وقاتلها قتالاً شديداً، وقطع أشجارها، وشن الغارة على ما حولها من البلاد، وفتح فيها عدة حصون، فقتل رجالها، وسبى حريمها، وخرب دورها، وهدم أسوارها، فضعفت النصرانية حينئذ، وعظم أمر الإسلام بالأندلس، وعاد يعقوب إلى إشبيلية فأقام بها.
فلما دخلت سنة ثلاث وتسعين سار عنها إلى بلاد الفرنج، وذلوا، واجتمع ملوكها، وأرسلوا يطلبون الصلح، فأجابهم إليه بعد أن كان عازماً على الامتناع مريداً لملازمة الجهاد إلى أن يفرغ منهم، فأتاه خبر علي بن إسحق الملثم الميورقي أنه فعل بإفرقية ما نذكره من الأفاعيل الشنيعة، فترك عزمه، وصاحلهم مدة خمس سنين، وعاد إلى مراكش آخر سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة.

.ذكر فعلة الملثم بإفريقية:

لما عبر أبو يوسف يعقوب، صاحب المغرب، إلى الأندلس، كما ذكرنا، وأقام مجاهداً ثلاث سنين، انقطعت أخباره عن إفريقية، فقوي طمع علي بن إسحق الملثم الميورقي، وكان بالبرية مع العرب، فعاود قصد إفريقية، فانبث جنوده في البلاد فخربوها، وأكثروا الفساد فيها، فمحيت آثار تلك البلاد وتغيرت، وصارت خالية من الأنيس، خاوية على عروشها.
وأراد المسير إلى بجاية ومحاصرتها لاشتغال يعقوب بالجهاد، وأظهر أنه إذا استولى على بجاية سار إلى المغرب؛ فوصل الخبر إلى يعقوب بذلك، فصالح الفرنج على ما ذكرناه، وعاد إلى مراكش عازماً على قصده، وإخراجه من البلاد، كما فعل سنة إحدى وثمانين وخمسمائة وقد ذكرناه.

.ذكر ملك عسكر الخليفة أصفهان:

في هذه السنة جهز الخليفة الناصر لدين الله جيشاً وسيره إلى أصفهان، ومقدمهم سيف الدين طغرل، مقطع بلد اللحف من العراق، وكان بأصفهان عسكر لخوارزم شاه مع ولده.
وكان أهل أصفهان يكرهونهم، فكاتب صدر الدين الخجندي رئيس الشافعية بأصفهان الديوان ببغداد يبذل من نفسه تسليم البلد إلى من يصل الديوان من العساكر، وكان هو الحكام بأصفهان على جميع أهلها، فسيرت العساكر، فوصلوا إلى أصفهان، ونزلوا بظاهر البلد، وفارقه عسكر خوارزم شاه، وعادوا إلى خراسان، وتبعهم بعض عسكر الخليفة، فتخطفوا منهم، وأخذوا من ساقة العسكر من قدروا عليه، ودخل عسكر الخليفة إلى أصفهان وملكوها.

.ذكر ابتداء حال كوكجه وملكه بلد الري وهمذان وغيرهما:

لما عاد خوارزم شاه إلى خرسان، كما ذكرنا، اتفق المماليك الذين للبهلوان والأمراء، وقدموا على أنفسهم كوكجه، وهو من أعيان المماليك البهلوانية، واستولوا على الري وما جاورها من البلاد، وساروا إلى أصفهان لإخراج الخوارزمية منها، فلما قاربوها سمعوا بعسكر الخليفة عندها، فأرسل إلى مملوك الخليفة سيف الدين طغرل يعرض نفسه على خدمة الديوان، ويظهر العبودية، وأنه إنما قصد أصفهان في طلب العساكر الخوارزمية، وحيث رآهم فارقوا أصفهان سار في طلبهم، فلم يدركهم، وسار عسكر الخليفة من أصفهان إلى همذان.
وأما كوكجه فإنه تبع الخوارزمية إلى طبس، وهي من بلاد الإسماعيلية، وعاد فقصد أصفهان وملكها، وأرسل إلى بغداد يطلب أن يكون له الري وخوار الري وساوة وقم وقاجان وما ينضم إليها إلى حد مزدغان، وتكون أصفهان وهمذان وزنجان وقزوين لديوان الخليفة، فأجيب إلى ذلك، وكتب له منشور بما طلب، وأرسلت له الخلع، فعظم شأنه، وقوي أمره، وكثرت عساكره، وتعظم على أصحابه.

.ذكر حصر العزيز دمشق ثانية وانهزمه عنها:

وفي هذه السنة أيضاً خرج الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين من مصر في عساكره إلى دمشق يريد حصرها، فعاد عنها منهزماً.
وسبب ذلك أن من عنده من مماليك أبيه، وهم المعروفون بالصلاحية: فخر الدين جركس، وسرا سنقر، وقراجا، وغيرهم كانوا منحرفين عن الأفضل علي بن صلاح الدين لأنه كان قد أخرج من عنده منهم مثل: ميمون القصري، وسنقر الكبير، وأيبك وغيرهم، فكانوا لا يزالون يخوفون العزيز من أخيه، ويقولون: إن الأكراد والمماليك الأسدية من عسكر مصر يريدون أخاك، ونخاف أن يميلوا إليه ويخرجوك من البلاد، والمصلحة أن نأخذ دمشق؛ فخرج من العام الماضي وعاد، كما ذكرناه، فتجهز هذه السنة ليخرج، فبلغ الخبر إلى الأفضل، فسار من دمشق إلى عمه الملك العادل، فاجتمع به بقلعة جعبر، ودعاه إلى نصرته، وسار من عنده إلى حلب، إلى أخيه الملك الظاهر غازي، فاستنجد به، وسار الملك العادل من قلعة جعبر إلى دمشق، فسبق الأفضل إليها ودخلها، وكان الأفضل لثقته به قد أمر نوابه بإدخاله إلى القلعة ثم عاد الأفضل من حلب إلى دمشق ووصل الملك العزيز إلى قرب دمشق، فأرسل مقدم الأسدية، وهو سيف الدين أيازكوش، وغيره منهم، ومن الأكراد أبو الهيجاء السمين وغيره، إلى الأفضل والعادل بالانحياز إليهما والكون معهما، ويأمرهما بالاتفاق على العزيز والخروج من دمشق ليسلموه إليهما.
وكان سبب الانحراف عن العزيز وميلهم إلى الأفضل أن العزيز لما ملك مصر مال إلى المماليك الناصرية، وقدمهم، ووثق بهم، ولم يلتفت إلى هؤلاء الأمراء، فامتعضوا من ذلك، ومالوا إلى أخيه، وأرسلوا إلى الأفضل والعادل فاتفقا على ذلك، واستقرت القاعدة بحضور رسل الأمراء أن الأفضل يملك الديار المصرية، ويسلم دمشق إلى عمه الملك العادل، وخرجا من دمشق، فانحاز إليهما من ذكرنا، فلم يمكن العزيز المقام، بل عاد منهزماً يطوي المراحل خوف الطلب ولا يصدق بالنجاة، وتساقط أصحابه عنه إلى أن وصل إلى مصر.
وأما العادل والأفضل فإنهما أرسلا إلى القدس، وفيه نائب العزيز، فسلمه إليهما، وسارا فيمن معهما من الأسدية والأكراد إلى مصر، فرأى العادل انضمام العساكر إلى الأفضل، واجتماعهم عليه، فخاف أنه يأخذ مصر، ولا يسلم إليه دمشق، فأرسل حينئذ سراً إلى العزيز يأمره بالثبات، وأن يجعل بمدينة بلبيس من يحفها، وتكفل بأنه يمنع الأفضل وغيره من مقاتلة من بها، فجعل العزيز الناصرية ومقدمهم فخر الدين جركس بها ومعهم غيرهم، ووصل العادل والأفضل إلى بلبيس، فنازلوا من بها من الناصرية، وأراد الأفضل مناجزتهم، أو تركهم بها والرحيل إلى مصر، فمنعه العادل من الأمرين، وقال: هذه عساكر الإسلام، فإذا اقتتلوا في الحرب فمن يرد العدو الكافر، وما بها حاجة إلى هذا، فإن البلاد لك وبحكمك، ومتى قصدت مصر والقاهرة وأخذتهما قهراً زالت هيبة البلاد، وطمع فيها الأعداء، وليس فيها من يمنعك عنها.
وسلك معه أمثال هذا، فطالت الأيام، وأرسل إلى العزيز سراً يأمره بإرسال القاضي الفاضل، وكان مطاعاً عند البيت الصلاحي لعلو منزلته كانت عند صلاح الدين، فحضر عندهما، وأجرى ذكر الصلح، وزاد القول ونقص، وانفسخت العزائم واستقر الأمر على أن يكون للأفضل القدس وجميع البلاد بفلسطين وطبرية والأردن وجميع ما بيده، ويكون للعادل إقطاعه الذي كان قديماً، ويكون مقيماً بمصر عند العزيز، إنما اختار ذلك لأن الأسدية والأكراد لا يريدون العزيز، فهم يجتمعون معه، فلا يقدر العزيز على منعه عما يريد، فلما استقر الأمر على ذلك وتعاهدوا عاد الأفضل إلى دمشق وبقي العادل بمصر عند العزيز.